الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
الجزء الرابع حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية
اعلم - هداك الله وأرشدك - أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة بل وهم أيضاً لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه ولهذا يتناقضون كثيراً في قولهم وإنما يتخيلون شيئاً ويقولونه أو يتبعونه ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم مع استشعارهم أنهم مفترقون ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم وسر مذهبهم صاروا يعظمون ذلك ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم وكما بذل آل فرعون لفرعون. وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفساداً أو جامع بين الوصفين. وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم "
اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة ولهذا من سماهم حلولية أو قال هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول إلى باطن أمرهم لأن من قال أن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال وهذا تثنية عندهم وإثبات لموجودين )أحدهما( وجود الحق الحال )والثاني( وجود المخلوق المحل وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة. ولا ريب أن هذا القول أقل كفراً من قولهم وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به بل جعلهم خلق من الأئمة - كابن المبارك ويوسف ابن اسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره - خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم. ولا ريب إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها. وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان )أحدهما( لا يرضونه لأن الاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبداً )والطريق الثاني( صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم. وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول أن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت وأما على قول من لا يفرق فيقول أن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها فاضطربوا على ثلاث مقالات أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره لعدم كمال شهود الحق وتصوره. المقالة الأولى مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره بل هو كثير الاضطراب فيه وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه. فإن مقالته مبنية على أصلين. الأصل الأول لمذهب ابن عربي أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة وهؤلاء يقولون أن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم لأنه لولا ثبوتها لما تميز المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه ولما صح قصد ما يراد إيجاده لأن القصد يستدعي التمييز والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها وقد كفرهم بها طوائف مت متكلمة السنة - فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها ولا يقولون أن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه. وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق الله أو هو الله يقولون إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وقد يقولون الوجود صفة للموجود. وهذا القول وإن كان فيه شيه بقول القائلين بقدم العالم أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فلس هو إياه وإن كان بينهما قدر مشترك فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوان والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء بل هي كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات والاستحالات القائمة بالعناصر من حركات الكواكب والشمس والقمر والسحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك كل هذا حادث غير قديم عند كل ذي حس سليم فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم ويقولون أن مواد جميع العالم قديمة دون صوره. واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده حتى يقال كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه ولا ينبغي للإنسان أن يعجب. فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس. ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم )صم بكم عمي( وأنهم )لا يفقهون ولا يعقلون( وأنهم ) وإنما نشأ - والله أعلم - الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه - أو ) وإنما هو متميز في علم الله وكتابه والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل ويعلم ما كان كآدم والأنبياء ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون كما يعلم ما أخبر الله عن أهل النار ) فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين - ليس بمجرد تصورنا يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسانا من ذهب وفرساً من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلاً. وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخميس ألف سنة ". وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: رب وما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال ابن عباس " إن الله خلق الخلق وعلم ما هو عاملون ثم قال لعلمه " كن كتاباً " فكان كتاباً ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال ) وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً وفي رواية متى كتبت نبياً - قال " وآدم بين الروح والجسد " هكذا لفظ الحديث الصحيح. وما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " " كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين " فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ بل هو باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الله خلقه من تراب وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً ويبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والتراب ولو قيل بين الماء والترب لكان أبعد عن المحال مع أن هذه الحال لا اختصاص لها وإنما قال " بين الروح والجسد " وقال " وإن آدم لمنجدل في طينته " لأن آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه كما قال تعالى " وقال تعالى ) والأحاديث في خلق آدم ونفه الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً أي كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح - وقال - فوالذي نفسي بيده أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة " فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح وآدم هو أبو البشر كان أيضاً من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدراً وأرفعهم ذكراً فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبياً حينئذ وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته فإنه كون في التقدير الكتابي ليس كوناً في الوجود العيني إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى ) وقال ) وقال ) ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب. حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض رواه البغوي في شرح السنة هكذا ورواه الليث بن سعد عنه نحوه ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم " الحديث. وفيه " كذلك أمهات النبيين يرين " وقوله " لمنجدل في طينته " أي ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد. وقد روي أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ. وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له متى كنت نبياً قال " وآدم بين الروح والجسد " وقد رواه أبو الحسن بن بشر أن من طريق الشيخ أبي الفرج بن الجوزي في )الوفا بفضائل المصطفى( صلى الله عليه وسلم: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بنا سنان العوفي ثنا إبراهيم بن طهمان عن يزيد بن ميسرة عن عبد الله ابن سفيان عن ميسرة قال قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً قال " لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه ". وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة: ومن طريق الشيخ أبي الفرج حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن رشدين ثنا أحمد بن سعيد الفهري ثنا عبد الله ابن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال يا رب بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى إليه وما محمد ومن محمد فقال: يا رب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك " فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة. وفي الصحيحين عن عائشة قالت " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو بحراء فأتاه الملك فقال له: اقرأ. قال لست بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: لست بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت لست بقارئ ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: وهذا أمر بين يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع فإن الشيء لا يكون قبل كونه. وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها فهذا حق لا ريب فيه. وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار. وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار كفرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما. وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه وهو ترك العمل لأجله فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فجعل ينكت بمخصرته ثم قال " ما منكم من أحد - أو قال - ما نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتب شقية أو سعيدة " قال فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال " اعملوا فكل ميسر: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة - ثم قرأ ) وفي الصحيحين أيضاً عن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال " نعم " قال فقيل: ففيم يعمل العاملون فقال " كل ميسر لما خلق له " وفي رواية: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وتثبت الحجة عليهم فقال " لا. بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله ) وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل قال " لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير " قال: ففيم العمل قال " اعملوا فكل ميسر ". وفي صحيح مسلك عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ر يقول " كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - قال: وعرشه على الماء ". وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال له " اكتب قال: رب ما أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مات على غير هذا فليس مني " ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال: دعاني - يعني أباه - عند الموت فقال: يا بني اتق الله واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله خيره وشره وإن مت على غير هذا دخلت النار إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال ما أكتب قال اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد ". وفي الترمذي أيضاً عن أبي حراثة عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قضاء الله تعالى شيئاً قال " هي من قدر الله ". لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون فأما المعدوم الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول المعدوم شيء ومع هذا فليس بمقدر كونه والله يعلمه على ما هو عليه يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا ولي من الذل ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وهذه المعدومات الممتنعة ليست شيئاً باتفاق العقلاء مع ثبوتها في العلم فظهر أنه قد ثبت في العلم ما لا يوجد وما يمتنع أن يوجد إذ العلم واسع فإذا توسع المتوسع وقال المعدوم شيء في العلم أو موجود في العلم أو ثابت في العلم فهذا صحيح أما أنه في نفسه شيء فهذا باطل وبهذا تزول الشبهة الحاصلة في هذه المسألة. والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف: أن المعدوم ليس في نفسه شيئاً وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم قال الله تعالى لزكريا ) وقال تعالى ) ولو كان المعدوم شيئاً لم يتم الإنكار إذا جاز أن يقال ما خلقوا إلا من شيء لكن هو معدوم يكون الخالق لهم شيئاً معدوماً. وقال تعالى ) وأما قوله ) والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون وهذا من فروع هذه المسألة. فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك. وأولئك يقولون الوجود قدر زائد على الماهية ويقولون الماهيات غير مجعولة ويقولون وجود كل شيء زائد على ماهيته ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده وأن الوجود مشترك بين الموجودات وماهية كل شيء مختصة به. ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر فإنا قد قدمنا الفرق بين الوجود العلمي والعيني. وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك. فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي والإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه ونفسه وماهيته وما علمت وجوده حصل وجوده العلمي وما حصل وجوده العيني الحقيقي ولم يعلم ماهيته الحقيقية ولا عينه الحقيقية ولا نفسه الحقيقية الخارجية فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته إلا أن اللفظين قد يعبر به عن الذهني والآخر عن الخارجي فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود. وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيا - فالقول فيه كذلك فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما العلم يدرك الوجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يمكن فيها اشتراك وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف بالإطلاق والعموم وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق وذلك لا يوجد في الخارج إلا معيناً فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه وبين ثبوته ووجوده في العلم فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي وأما هذا فيقال له الوجود الذهني والعلمي. وما من شيء إلا له هذان الثبوتان والعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط فيصير لكل شيء أربعة مراتب: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في للسان ووجود في البنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي. ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة ) فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي وأن الله سبحانه هو معطيهما فهو خالق الخلق وخالق الإنسان وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان. فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
|